غزوة تبوك، سر خوض الرسول المعركة في شهر رجب الذي حرم فيه القتال
غزوة تبوك، يعد شهر رجب أحد الأشهر الأربعة الحرم التي خصها الله تعالى بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها في قوله تعالى -عز وجل-: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) “التوبة:36”.
والأشهر الحرم كانت معظمة في شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، واستمر تعظيمها في ذريتهما من بعدهما، فكان العرب يعظمونها ويحرمون القتال فيها، فلما جاء الإسلام أقر تعظيمها وتحريم القتال فيها فقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ {البقرة: 217}. وقال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ “التوبة: 36”.
Advertisements
غزوة تبوك في شهر رجب
ورغم حرمة القتال في الأشهر الأربعة الحرم إلا أن شهر رجب شهد غزوة تبوك، واستغرقت هذه الغزوة خمسين يومًا أقام منها عشرين يومًا في تبوك والباقي كانت مسيرة الجيش قضاها في الطريق ذهابًا وعودة.
ويتساءل البعض عن سر خوض النبي لمعركة في شهر رجب الذي حرم فيه القتال، للإجابة عن هذا السؤال نستعرض أحداث غزوة تبوك والأسباب القهرية التي أجبرت المسلمين على خوضها.. آخر معارك الرسول غزوة تبوك كانت آخر الغزوات يقودها الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك في شهر رجب من عام 9 ھـ بعد العودة من حصار الطائف بنحو ستة أشهر وقرر الرسول الكريم خوض هذه الغزوة للتصدي لأطماع الرومان الذين أعدوا العدة لإنهاء القوة الإسلامية التي أخذت تهدد كيانهم وتحالفهم المسيطر على المنطقة؛ فخرجت جيوش الروم العرمرمية بقوى رومانية وعربية تُقدر بأربعين ألف مقاتل قابلها ثلاثون ألفًا من الجيش الإسلامي
وروى البخاري ومسلم من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك.. وهي آخر غزوة غزاها
سبب تسمية غزوة تبوك بالعسرة
وتُسمى غزوة تبوك بغزوة العُسرة؛ وقد وردت هذه التسمية في القرآن الكريم، وذلك بسبب العسر والضيق الذي أصاب المسلمين عندها، فكان تجهيز الجيش صعبًا، وكانت الظروف في ذلك الوقت صعبة على المسلمين، وأخبر الله -تعالى- عن بعض وقائعها في سورة التوبة.[١]
سبب تسمية الغزوة بتبوك
كما سميت بغزوة تبوك، التي أرست دعائم الدولة الإسلامية ومهدت لفتوح الشام، لأنها وقعت عند بئر تبوك في فصل الصيف في شدة الحر وقد بلغ العطش والتعب من المسلمين مبلغهما حتى كادوا أن ينحروا بعيرهم ليشربوا مائها من شدة العطش، فضحت هذه الغزوة المنافقين وكشفت أعذارهم وأقوالهم الكاذبة التي أبدوها حتى يتخلفوا عن الحرب، ومن بين هذه الأعمال بناء المسجد الضرار الذي أراد به المنافقون تحقيق مآرب ضد الإسلام لكن الله أخبر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بما يريده هؤلاء المنافقين ولذا أمره بهدم المسجد.
تجهيز جيش المسلمين
ومن جانبه جهز الرسول جيشا قوامه 30 ألفا مقابل 40 ألفا من جيش الروم، لم يتخلف من جيش الرسول إلا المنافقون أصحاب الأعذار الواهية، والثلاثة المشهورين، واستخلف الرسول محمد بن مسلمة على المدينة وعلى بن أبي طالب على أهله.
تجهيزات الصحابة والمسلمين للغزوة
كما جهز سيدنا عثمان بن عفان ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وتصدق سيدنا أبو بكر بماله كله، أما سيدنا عمر بن الخطاب فقد تصدق بنصف ماله وظن أنه سيسبق سيدنا أبا بكر بذلك. ويقول سيدنا عمر بنفسه: أمرنا رسول الله يوما أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي فقال رسول الله: ما أبقيت لأهلك، فقلت: مثله، وأتي أبو بكر بكل ما عنده فقال له رسول الله ما أبقيت لأهلك قال: أبقيت الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا.. ثم تصدق الصحابة بما عندهم من مال قدَّم الفقراء من المسلمين ما لديهم من نفقة على استحياء؛ وقد تعرضوا لغمز ولمز المنافقين، فقد جاء أحد هؤلاء الصحابة بنصف صاع تمر، وجاء آخر بأكثر منه، فلمزها المنافقون وقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا وما فعل هذا الآخر إلا رياء، فنزلت الآية الكريمة "الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"
أحداث الغزوة
وانطلق الجيش بقيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو الشمال، وفي الطريق مرّوا على ديار ثمود، فسارع بعض المسلمين ليروا مساكنهم، ويقفوا على آثارهم، وبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا الناس ثم قال لهم: ( لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين ؛ حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم )، ثم أمرهم بالإسراع في الخروج، فأخبره الصحابة أن بعضهم قد تزوّدوا بالماء للشرب وصنع العجين، فأمرهم بإراقة ذلك الماء، وإطعام العجين للدواب، إلا أنه استثنى ما أخذوه من بئر ناقة صالح عليه السلام. شكوا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدعا ربّه بنزول المطر، ولم يكد ينتهي من دعائه حتى أمطرت السماء وارتوى الناس، وكانت هذه المعجزة تثبيتًا للمؤمنين وتخفيفًا لمعاناتهم. وكان أبو ذرّ الغفاري رضي الله عنه قد تأخّر عن الجيش، فبحث عن راحلةٍ تمكّنه من اللحاق بهم، فلم يجد سوى راحلةٍ هزيلة، فلما أبطأت به وخشي أن يتأخّر، أخذ متاعه وحمله على ظهره، ومشى على قدميه حتى اقترب من الجيش، وعندما وصل الجيش إلى تبوك، لم يجدوا أثرًا للروم أو القبائل الموالية، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سريّةً بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى دومة الجندل، وغنموا عددًا كبيرًا من المتاع والأنعام، واستطاعوا أن يأسروا ملكها " أكيدر بن كندة "، وأتوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فصالحه على دفع الجزية، ثم أطلق سراحه هذه هي أحداث آخر غزوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، استطاع من خلالها إسقاط هيبة الروم، وتوطيد سلطان الإسلام في الجزيرة، وإيصال رسالة إلى قبائل العرب بمقدار القوّة التي بلغها المسلمون، الأمر الذي كان له أعظم الأثر في استجابتهم لدعوة الحق وقبولهم للإسلام بعد ذلك
الانتصار من دون قتال، وموقف المنافقين
حققت هذه الغزوة الغرض المرجو منها على الرغم من عدم الاشتباك الحربي مع الروم الذين آثروا الفرار شمالًا فحققوا انتصارًا للمسلمين دون قتال، حيث أخلوا مواقعهم للدولة الإسلامية. وهذه الغزوة مكنت المسلمين من رسم تغيرات عسكرية في المنطقة، جعلت حلفاء الروم يتخلون عنها ويحالفون العرب كقوة أولى في المنطقة، كما أنها كانت معركة كاشفة فاضحة كشفت المنافقين وفضحت كل من في قلبه مرض من المدسوسين الذين كانوا يعيشون بين أظهر المسلمين، حيث حاول هؤلاء وقت الخروج لغزو الروم، في تخذيل الفئة المؤمنة وثنيها عما هي ماضية إليه، فقد كان عدد المتخلفين من المنافقين في غزوة تبوك نحو ثمانين رجلًا، وكانت مصالحهم الدنيوية قد قعدت بهم عن الجهاد في سبيل الله كما حاولوا أن يصدّوا الناس عن الخروج، بالترهيب من لقاء العدوّ تارةً، والترغيب في الجلوس والإخلاد إلى الراحة تارةً أخرى، خصوصًا أن الغزوة كانت في وقت شدّة الحرّ وطيب الثمر. ولم يتوقّف كيد المنافقين عند هذا الحدّ، بل قاموا ببناء مسجد في أطراف المدينة ليكون مقرًّا لهم، يدّبرون فيه المؤامرات للقضاء على الإسلام وأهله، وطلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلّي فيه كنوعٍ من التمويه والخداع، لكنّ الله بيّن لنبيّه حقيقة نواياهم، ونهاه عن الصلاة في مسجدهم. سر بقاء النبي وصحابته في تبوك ومكث النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبوك عشرين يومًا، يستقبل الوفود التي جاءت للمصالحة ودفع الجزية من أهل " جرباء وأذرح "وغيرهما، وكان منهم وفد ملك " أيلة " الذي بعث بهديّةٍ من كساء وبغلة بيضاء، فقبلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد أن تحقّق المقصود من الغزو، عاد الجيش الإسلاميّ إلى المدينة، فلما اقترب منها خرجت جموع النساء والأطفال لاستقبال النبي - صلى اللهعليه وسلم - والاطمئنان على سلامته، ثم توجّه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مسجده وصلّى فيه ركعتين، ثم جلس مع الناس، وجاءه المنافقون يعتذرون إليه، فقبل أعذارهم وأوكل سرائرهم إلى الله، وحضر إليه الثلاثة الذين خُلّفوا عن المعركة فلم يقبل أعذارهم، ونهى الناس عن مخالطتهم والكلام معهم، حتى أنزل الله توبتهم.
و