ترميم ذاكرة مصر الفنية.. فيتو ترصد خطوات الحفاظ على كلاسيكيات السينما بمدينة الإنتاج الإعلامي (فيديو)
مركز الترميم السينمائي، كانت العادة في سنوات سابقة، وأعوام ما قبل ظهور السوشيال ميديا واحتلالها مكانة كبيرة لدى أفراد الأسرة المصرية، أن تتجمع الأسرة في يوم الإجازة أمام شاشة التلفزيون تجذبهم إحدى روائع وكلاسيكيات السينما المصرية لكبار الرموز وعمالقة الفن المصري أمثال حسين رياض، أنور وجدي، علوية جميل، عمر الشريف، فاتن حمامة، وليلى مراد، إسماعيل ياسين، وغيرهم الكثير من الرواد الأوائل الذين كتبوا تاريخا وسطورا من ذهب في ذاكرة السينما والدراما بالمحروسة.
روائع السينما المصرية
لكن هل سألت نفسك يوما.. كيف تعرض هذه الأفلام رغم مرور سنوات طويلة على إنتاجها؟.. وبالتأكيد لفت نظرك في إحدى المرات ضعف جودة بعضها عند العرض، من مشاكل في الصورة والصوت وغيرها، كل هذه التفاصيل قلما تخطر في ذهن المشاهد والجمهور لكنها تدلل على وجود العديد من الخبايا المجهولة في رحلة الحفاظ على مادة الفيلم من التلف.
في البداية.. فهذه الأفلام تخزن في الأماكن المخصصة لتخزين المواد الفيلمية سواء بشركات الإنتاج سابقا أو في أي جهة تتفق معها الشركة لحفظ ذلك، لكن ومع مرور السنوات فإن هذه النسخ الأصلية تتعرض للتلف شيئا فشيئا مع تعرضها لمختلف العوامل التي تضر بالمادة الفيلمية.
كما أن تطور الصناعة ودخول التكنولوجيا الحديثة بشكل كبير في كل ما يتعلق بالمنتج السينمائي من تصوير وإخراج وغيرها، كذلك التحديث في الأجهزة التي تعرض هذه المواد، يجعل إمكانية ضياع التراث السينمائي وعدم القدرة على عرضه من جديد أمرا واردا بشدة وضرورة ملحة لإيجاد حل لذلك.
المئات من روائع وكلاسيكيات السينما المصرية كانت مهددة بالفعل بالضياع، تراث فني وإرث كبير زادت نسبة التلف به، كارثة كانت ستصيب ذاكرة الفن المصري الرائد بالمنطقة العربية والقارة الإفريقية، وأجيال لن تعلم أي شيء عن ريادة آبائها وأجدادها في ذلك العالم السينمائي.
إنشاء مركز الترميم السينمائي
لذلك وفي عام 2018 سعت الدولة المصرية للحفاظ على ما تمتلكه من إرث لا يمكن تعويضه أو تركه ليذهبه الزمن ويجعله هباء منثورا، وتم إنشاء مركز إحياء التراث السمعي والبصري بمدينة الإنتاج الإعلامي (مركز الترميم السينمائي)، ويقول عن ذلك المهندس محمد فؤاد رئيس قطاع الهندسة بمدينة الإنتاج: "مركز الترميم أنشأ عام 2018.. وهو أول مركز في الشرق الاوسط للترميم السمعي والبصري.. وبلغت تكلفة إنشاءه قرابة الـ 2 مليون يورو وتم تزويده بكافة الأجهزة الحديثة التي تساعد في الحفاظ على تراث مصر الأصيل وتاريخنا".
جريدة مصر السينمائية والتعاون مع المهرجانات
وتابع: "أول أعمال المركز كانت مع جريدة مصر السينمائية وهي الجريدة التي تحكي عن تاريخ مصر من عام 1935.. تعاقدنا مع الهيئة العامة للاستعلامات، ونفذنا ترميم وتصحيح حتى درجة الـ4k انتهينا في العمل معها عام 2021 بحوالي 500 ساعة تحكي عن تاريخ مصر منذ الملك فاروق حتى العصر الحالي.
وبعد انتهائنا من هذا المشروع المهم بالنسبة للمركز انفتاحنا على العالم الخارجي.. وتعاقدنا مع العديد من المهرجانات الكبيرة لترميم دور السينما ومن أهم هذه المهرجانات مهرجان القاهرة السينمائي ومهرجان البحر الأحمر بالسعودية ومهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة".
وأضاف رئيس قطاع الهندسة بمدينة الإنتاج الإعلامي أنهم قدموا بالفعل العديد من النسخ المرممة وكان منها أفلام "خلي بالك من زوزو"، "غرام في الكرنك"، "أهل القمة"، "البؤساء"، ومؤخرا "انتصار الشباب"، قائلا: "هذه الأعمال لاقت ترحيبا كبيرا من معظم منتجيها وممثليها ممن لا يزالون على قيد الحياة لدرجة أنهم انبهروا بما حدث في ترميم هذه الأفلام".
وعن تعاقد المركز مؤخرا مع وزارة الثقافة ممثلة في الشركة القابضة للصناعات السينمائية لترميم مجموعة متنوعة من تراث السينما المصرية، يضيف: "تعاقدنا معهم على أن تكون المرحلة الأولى هي ترميم 100 فيلم.. وما يليها من ترميم أعمال أخرى في القائمة".
رحلة ترميم الفيلم بمركز الترميم السينمائي
إذن هي رحلة طويلة يمر بها أي عمل سينمائي قيد الترميم بمركز التراث السمعي والبصري بمدينة الإنتاج، تبدأ من تعاقد الجهة المالكة للعمل مرورا بكافة مراحل الترميم التي تجري من خلال خلية عمل على أعلى مستوى داخل المركز في كافة فروع وجوانب المنتج السينمائي.
الترميم اليدوي
وعن "الترميم اليدوي" أولى المراحل التي تجرى للفيلم قيد الترميم داخل المركز، يقول المهندس إسلام الطبلاوي: "مرحلة الترميم اليدوي والتي تكون في بداية رحلة الترميم يتم العمل فيها على المادة الفيلمية نفسها وتنقيتها، حيث أن هذه المادة تتكون من الجيلاتين والذي يكون معرضا للتحلل وبطريقة معينة، نقوم بتعويض الجوانب المتحللة من الفيلم بلحامات يدوية وبعدها يدخل المرحلة مرحلة تسمى بالغسالة وهي تقوم بغسل الفيلم السينمائي عن طريق محلول بيشيل منه كل ما علق به ليكون جاهزا للدخول في المرحلة التالية والتي يتم فيها تحويل هذه المادة رقميا".
وتابع: "من أصعب الأفلام التي قمنا بترميمها كان (انتصار الشباب) إنتاج سنة 1941 كانت طريقة تخزينه صعبة شوية.. وعوضنا كل التآكل اللي كان فيه بلحامات".
نقل الصورة للديجيتال
وبعد مرحلة الترميم اليدوي للأفلام تأتي مرحلة لا تقل صعوبة في رحلة الترميم وهي نقل الصورة للديجيتال وفي هذه المرحلة يتم معالجة الأفلام لتنقل من نسخة الـ 16 ملي أو 35 ملي كما كانت صيغتها قديما إلى نسخة dpx رقمية حديثة.
وعن هذه المرحلة تتحدث رشا فتحي القباني مدير إدارة التشغيل التقني والصيانة بمركز الترميم السينمائي قائلة: "يتم نقل الصورة لنسخة رقمية حتى يتم العمل عليها من خلال الأجهزة في المراحل القادمة بعملية الترميم.. ويتم عملنا من خلال وحدة المسح الضوئي والتي تقوم بأخذ صورة عالية الجودة للفيلم تتميز بخصائص تكنولوجية كبيرة".
وتتابع: "الفيلم في مرحلة الترميم هذه بيتم إصلاح كافة العيوب التي يمكن أن تكون به وأبرزها الجروح أو البقع التي تكون في العمل.. ويتم وضعه على إسكانر ويتم استخدام محلول بحيث يغطي كافة الجروح ويخرج بأكبر قدر ممكن من النقاء حتى يسهل المهام المتبقية في عملية خروجه بعد الترميم".
ترميم الصوت
وبالتأكيد كما توجد عيوب وتلفيات في صورة المادة الفيلمية للأعمال التراثية القديمة، فهناك أيضا أضرار تلحق بالصوت نتيجة التخزين لسنوات طويلة، وهي الجزئية التي خصص لها مركز الترميم السينمائي قسما خاصا للتعامل مع تلفيات الصوت ليخرج الفيلم بعد ترميمه بأفضل حال.
وعن مرحلة ترميم الصوت كشف مهندس الصوت أحمد عليوة جانبا من رحلة الفيلم خلال عملية ترميم صوته قائلا: "نعمل في هذه المرحلة على التغلب على بعض المشاكل التي توجد في العمل ومنها أزمة تقطيع الصوت وبعض الجمل التي تكون ناقصة بسبب عمليات التلف.. كما يحدث في بعض الأفلام تحليلا يصيب بعض الجمل في المشاهد وفي هذه الحالات نحاول تعويض ذلك بنسخ رقمية حديثة سواء من على موقع الفيديوهات يوتيوب أو توفير العميل نسخة رقمية بصيغة الـ VHS عشان نسحب منها كلمة أو جملة أو حتى حرف يكون غير واضح في صوت الفيلم".
وتحدث "عليوة" عن فيلم أهل القمة بطولة سعاد حسني ونور الشريف وعزت العلايلي وعمر الحريري، من إنتاج عام 1981 والذي قام المركز بترميمه مؤخرا قائلا: "كانت تواجهنا في ترميم هذا الفيلم مشكلة في الصوت وهي حالة من الإزعاج عند العرض.. لكن تغلبنا عليها وتم عرض الفيلم بسينما زاوية بعد ترميمه لدينا وظهر بصورة رائعة للغاية.. كما أننا كل عدة أشهر نراجع ونذاكر أحدّث التقنيات التي تطرح ونقوم بشرائه والحصول عليه حتى نظل نواكب التطوير بصورة منتظمة".
الترميم الرقمي للصورة
وفي خضم هذه الرحلة الطويلة للفيلم خلال عملية ترميمه، تأتي مرحلة لا تقل أهمية عن سابقيها وهي الترميم الرقمي للصورة، وهذه تختلف عن المرحلة الأولى التي يتم ترميم الصورة فيها يدويا، ففي هذه الخطوة يتم الاعتماد على البرامج الحديثة وإنهاء أية عيوب تظهر فيها بعد المراحل السابقة.
تصحيح ألوان الفيلم
ثم يعقب الترميم الرقمي للصورة مرحلة أخيرة وفي غاية الأهمية وغير مسموح بالخطأ فيها نهائيا، وهي عملية تصحيح الألوان للفيلم ويقول عنها طارق عبد المنعم الشبكشي مدير إدارة التشغيل الإبداعي بمركز الترميم: "في مرحلة تصحيح الألوان.. الفيلم بيكون خلاص تم تنظيفه نهائيا كصورة وصوت وانتهت العيوب.. وتقوم فكرة التلوين بالأساس على الحفاظ على اللون الأساسي للفيلم ورؤية مدير التصوير ومخرج العمل الرئيسي.. فنحن لا نقوم بعمل ألوان جديدة للفيلم لكن عملنا يتعلق بتقوية وتوضيح الصورة لأنها ساعات تأتي في هذه المرحلة باهتة بعض الشيء فنعيدها لما كانت عليه وبالفعل بنقدر نرجع هذه الألوان كاملة للصورة.. وهي دي المرحلة النهائية في رحلة ترميم الفيلم".
تحدي الحفاظ على التراث السينمائي
المهندسة ندى حسام الدين مدير عام مركز الترميم السينمائي تقول: "أهم حاجة عندنا هي السينما المصرية وتاريخها الكبير والمشرف جدا والذي يستحق الاهتمام.. ومع تطور دور العرض وشاشات العرض في كل منزل زرع تحديا جديدا لدينا يتمثل في أنه يجب عرض تاريخنا الفني بصورة مشرفة من خلال رقمنته وتصحيحه حتى يصبح في الصورة اللي يستحقها".
وتابعت: "شرائط السينما ظلت هي الوسيط الرئيسي للأفلام.. والسينما الوثائقية لمدة طويلة ظلت مسجلة على شرائط سينما وصلت مدة تخزين بعضها لـ 80 سنة وكان هذا التخزين لا يتم بصورة جيدة وطبعا دا أثر على الوسيط بشكل كبير".
وأردفت مدير مركز الترميم السينمائي بمدينة الإنتاج الإعلامي: "وبالتالي بنصارع الزمن والوقت عشان نلحق الأفلام القديمة هذه ونخرجها للنور ونعالجها بحيث تظل موجودة للأجيال القادمة بصورة مشرفة".
وتضيف: "مراحل الترميم طويلة ومعقدة لأن الفيلم بيجلنا الأول بنبدأ نفحصه ونشوف مدى تأثره بعوامل الزمن والبداية تكون بالمعالجة اليدوية، وطبعا دا بيحتاج مهارة وكفاءات تقدر تتعامل مع حالات الأفلام دي ثم تتوالى كافة المراحل حتى النهاية.. هذه الرحلة من الممكن أن تستغرق وقتا يتراوح من 3 شهور لسنة كاملة في عملية الترميم.. وكلما زادت فترة الترميم كلما ظهر الفيلم بعد هذه الرحلة بصورة أفضل".
في السياق ذاته أوضحت المهندسة ندى حسام الدين: "قمنا بترميم العديد من الأفلام الروائية والقصيرة.. ونتمنى أن نستمر بأكبر شكل ممكن لترميم أفلامنا وتراثنا قبل ضياع المادة الفيلمية هذه".
التعاقد مع وزارة الثقافة
وتابعت: "من الأخبار السعيدة التي تمت مؤخرا هو الاتفاق مع وزارة الثقافة في البدء في ترميم الأفلام القديمة التي بحوزتها.. البداية ستكون بأربعين فيلما.. وسيتم اختيار الأربعين فيلما هذه بناء على حالة المادة الفيلمية".
واختتمت قائلة: "هنبدأ بالأفلام الأكثر احتياجا للترميم حاليا.. ولا يشترط أن تكون أقدم الأفلام هي الأكثر احتياجا.. لأن حالة الفيلم تعتمد على درجة جودة تخزينه.. والأفلام الأسوء حالا سنبدأ بها على الفور.. لأن الفيلم بمجرد ما يبدأ في التحلل بيتسمر بسرعة كبيرة حتى يصل لمرحلة (الباودر) وينتهي.. وسنسعى للانتهاء من ترميم كافة الأفلام التي بحوزة وزارة الثقافة".
و