الفسطاطان
عدنا أو بالأدق وصلنا إلى ما يمكن وصفه بالمواجهة المصيرية أو سمها بالصفرية وهي التي توصف تراثيا بمواجهة الفسطاطين أو المعسكرين في حرب ليس هناك بد منها.
لفت نظري تغريدة لسوناك رئيس الوزراء البريطاني قال فيها سيسقط بوتين و كذلك حما س ولعل العبارة تكون كاشفة للطريقة التي تفكر بها القيادة الكامنة للناتو حيث يرون في فلسطين مجرد ساحة أخرى للصراع العالمي حول طبيعة النظام العالمي في الربع الثاني من القرن الواحد والعشرين.
جدير بالملاحظة هنا أن كل الاصطفاف الأورأمريكي في حرب أوكرانيا لم يتخلف منه أحد عن إعلان التأييد الغير مشروط لتل أبيب وحقها في الدفاع عن النفس فضلا عن تهديد كل من يخالف ذلك بالسجن إن كان مواطنا وبالطرد إن لم يكن كذلك ومعارضة أي دعوة لوقف إطلاق النار.
حسنا فعل سوناك أن بين لمن عميت عليهم الأمور أن الحرب واحدة وإن اختلفت الساحات ولعل طبيعته الآسيوية حملته على عدم الالتزام بأدبيات الدبلوماسية الاستعمارية العتيدة التي تتجنب مثل هذه الافادات ذات الطابع الاستراتيجي الشامل.
لماذا انتقل فسطاط الناتو بقضه وقضيضه إلى منطقتنا؟
ببساطة لأن أيقونة فترة بروز التحالف الأوربي الأمريكي تتعرض لخطر غير مسبوق ربما نتج عنه اختفائها من خريطة المنطقة وفي ذلك إشارة مشئومة لقرب زوال حقبة القطب الأوحد.
تبقى اللي ما تتسمى أشد الابتكارات الاستعمارية عبقرية باعتبار الحسابات وإدارة الصراع في المنطقة العربية وأكثرها فاعلية في حراسة المصالح الاستعمارية بقلب العالم القديم ولعلها آخر ما تبقى من ريحة الحبايب في الحقبة الكولونيالية بعد سقوط بريتوريا.
يأتي هجوم ٧ أكتوبر الصاعق في توقيت هو غاية في الحرج والحساسية كونيا حيث تدور رحى معركة طاحنة بين نظام القطب الواحد بجناحيه الشرقي والغربي عبر الأطلسي وبين مكونات نظام متعدد الأقطاب صاعد تقوده القوة العسكرية الهائلة لروسيا والعملاق الاقتصادي الصين.
هذا الصراع انفجر عسكريا في أوكرانيا عندما استبقت موسكو خطط وضع خنجر الناتو في خاصرتها وبينما تدور رحى حرب ما قبل الحرب في بحر الصين بدأ هذا الصراع في بلورة مواقف قوى إقليمية ترى لأسباب مختلفة منها ما هو تاريخي أو اقتصادي أو حتى عقائدي أنه قد آن الآوان لتغيير نظام القطب الأوحد الذي ألحق بها أضرارا شتى وما زال يفعل.
لعل ظهور بريكس ثم أوبك بلس وتمرد أفريقيا الفرنسية أظهر تلك التغيرات على الساحة الدولية.
ولسنا بحاجة لتسويد الصفحات عن حقيقة أن المنطقة العربية هي واحدة من ساحات هذا الصراع العالمي سواء في العراق أو سوريا أو ليبيا ناهيك عن فلسطين وكل القوى لها أياديها في أمعاء كل بلد عربي.
المثير للاهتمام هنا أن تل أبيب التي تسمع حسبما تزعم دبيب النملة في جوارها الإقليمي صدمت بما وصلت إليه القوى الفلسطينية في غزة من قدرات عسكرية رغم أن احجام حماش عن إسناد الجهاد في مواجهة كانت مع الكيان قبل شهر ونيف كان ينبغي أن يدق جرس آنذار بأنها تعد لشيء لا تريد أن تجهضه.
هول المفاجأة العسكرية زاد من تأثيره تصدع الكيان سياسيا ودخوله في حالة من الصراع الداخلي وتطورات الوضع في إيران بعد أن مكنته واشنطون من العراق لتفعيل الصراع المذهبي في المنطقة.
نجحت طهران في قيادة أنصارها في تقليص الوجود الأمريكي في العراق وتدعيم نفوذها في لبنان والدخول في علاقات مزدهرة مع سوريا والسيطرة على شمال اليمن بينما تمضي قدما في تطوير برنامجها النووي وتسليحها بل أنها بدأت بسعي صيني في اخترق الدرع الخليجي الذي كانت تعول عليه واشنطون في مواجهتها مع إيران.
والحقيقة أنني هنا لست بصدد بواعث الدعم الذي وفرته طهران لحماس من بعد تدعيم أسبق تاريخيا للجهاد ولكن أردت فقط أن أثبت حقيقة أن ثمة هلال من النفود الإيراني يبدأ من العراق إلى فلسطين مارا بسوريا ولبنان.
هنا استشعر فسطاط الناتو الخطر على جوهرة حقبة الكولونيالية الباقية ولا عجب أن تسارع واشنطون ولندن بل وروما وبرلين إلى الحضور بأساطيلها لشرق المتوسط والبحر الأحمر خشية من أن يتسع نطاق الحرب على غزة لتصبح حربا إقليميا.
لا يمكن لأحد أن يغفل عن اتصال الساحة السورية بالحضور الروسي عما يجري فروسيا لها قاعدة بحرية في طرسوس وها هي الصين ترسل سفنا عسكرية لإجراء مناورات مع اليمن عند باب المندب.
ثمة تباين مؤثر بين أهداف تل أبيب وأهداف فسطاط الناتو.
هول ما جرى في ٧ أكتوبر متفاعلا مع طبيعة اليمين المتطرف الحاكم في الكيان جعل الهدف الأبعد هو التخلص بشكل نهائي من سكان غزة عبر إعادة إنتاج مجازر الترويع التي جرت في ١٩٤٧ و ١٩٤٨ والقضاء على حماس والجهاد معا وصولا لتهجيرهم بإتجاه شبه جزيرة سيناء سواء لتكون الوطن البديل أو تذويبهم في المعمور المصري.
ليس بسر أو إنفراد أن السماسرة العرب يتولون التفاوض مع مصر حول الطلب المعلن من تل أبيب وواشنطون منذ أمد لنقل سكان غزة لسيناء وترددت أرقام مليارية لقبول ذلك مع إسقاط لجانب كبير من ديون مصر ووعود بتحمل تكلفة إنشاء الخيام ثم مساكن التوطين النهائي.
بل أن تل أبيب نشرت خططا لتوطين الغزويين في قلب المعمور المصري في تخط لفكرة الوطن البديل والعودة للبديل الأقدم وهو تذويب الفلسطينيين في دول الشتات العربية وغير العربية.
وفي إطار خطط الترويع والتهجير ترى القيادة الإسرائيلية أن تلويح حزب الله بالتدخل إذا ما تم شن هجوم بري على غزة يمثل خطرا ماحقا ليس فقط على نجاح خطة تدمير وتهجير غزة بل على الكيان ذاته ومن ثم أبلغت واشنطون بأنها ستبدأ بالهجوم على حزب الله لتأمين ظهر قوات الهجوم البري ولكن واشنطون نصحتها بعدم توسيع نطاق الحرب.
هذا يقودنا لطبيعة التصور الأمريكي الذي يدور حول تمكين تل أبيب من دحر حماس بشكل نهائي وصولا لتصفية القضية الفلسطينية وهي تعمل مع السماسرة العرب لحمل مصر على قبول انتقال سكان غزة لسيناء.
وفي ذات الوقت تسعى واشنطون عبر الحشد العسكري الذي يتعاظم يوما بعد يوم إلى تحسين موقفها العسكري حال تدخل حزب الله أو إيران في الحرب وإن كانت تؤمل في أن يشكل وجودها العسكري رادعا لكل منهما وقبلهما روسيا.
خطر انزلاق واشنطون للمشاركة في الحرب هو لحد ما رهن باتساع نطاق الحرب وإن كنا لا نستبعد تدخلها في غزة بذريعة إنقاذ الرهائن نظرا لتشككها في قدرة تل أبيب على اجتياح القطاع بدون خسائر قد تكون حاسمة في مصير الكيان.
تصفية القضية الفلسطينية هو هدف أمريكي ولكنه لا يتضمن مواجهة استباقية مع حزب الله أو إيران وترى أن تحقيق ذلك سيضمن نجاح مشروع الممر الهندي واسقاط أي ذريعة سعودية لرفض التطبيع مع تل أبيب إذ لن يكون هناك مجال للحديث عن الأرض مقابل السلام أو خيار الدولتين.
لكن لابد من النظر بقدر من التشكك في نجاعة افتراض أن يؤدي الحشد العسكري الأمريكي إلى ردع أطراف مثل حزب الله أو إيران وبالطبع يشمل ذلك العراق واليمن وسوريا.
فالوضع الدولي الراهن يختلف جوهريا عن ذاك الذي كان سائدا وقت الغزو الأمريكي للعراق وهذا أمر نحن في غنى عن سرد مفرداته والحقيقة أن الاحساس بترابط الساحات ليس فقط لدى سوناك بل هو أيضا حاضر لكل الأطراف الإقليمية والدولية ومن ثم فإن أحدا لن يقف مكتوف اليدين يشاهد محاولة اجتياح غزة بغض النظر إن الهدف هو القضاء على حماس أو التهجير القسري لسكان قطاع غزة.
سيكون من الغفلة أن ينتظر الثور الأحمر حتى ينتهي الأسد من أكل الثور الأبيض ويستدير لالتهامه لا جدال أن لكل انتقال من نظام دولي إلى نظام آخر حرب حاسمة وفعليا هذه الحرب قائمة في قلب أوربا وهي تشتعل في الشرق الأوسط وتوشك أن تشتعل في الشرق الأقصى، حرب واحدة وساحات المعارك متعددة.