ردودٌ فى حدود
صديقى العالم اللغوى الكبير الأستاذ الدكتور عبدالنعيم خليل، أستاذ علوم اللغة بكلية الآداب جامعة أسوان يذكرك بجيل العمالقة والقمم الشوامخ من أدبائنا الكبار: اطلاعٌ واسع وثقافةٌ موسوعية، وإحاطةٌ بفقه اللغة، وحبٌّ كبير للعربية وعلومها، وذوقٌ عالٍ فى تخريج الدلالات، يجمع بين ذكاء القدماء وخصوصية المحدثين، تستوقفه اللفتة العابرة فيلتمس لها تخريجًا لغويًّا واسع الدلالة، ويثير معها قضايا غاية فى الأهميّة، ربما غفل عنها كثيرون فى هذا الزمان الغُفْل. ونحن نعلم أنّ لكل كلمة حدًّا ومطلعًا؛ فلئن أصابت الردود حدود الكلمات ووقفت عليها، أفلحت وأفادت وأثمَرت. وإذا تجاوز الرد حدّ الكلمة، كان ردًّا غير علمى بالمرة، يدخل فى باب الهوى ويخلع عنه ربْقة الإنصاف، ثم يجىء مطلعه لا يفيد القارئ ولا السامع سواء. فإنّ الفارق اللفظى مُدْرج فى فقه اللغة كما حققه الأقدمون منذ الثعالبى والعسكرى، وإنى لأرى فى تحقيق عالمنا الجليل هذا، مدعاةً لتجديد العلم بفقه اللغة مع تطور مداخله ونشاط العقول النيرة فى تناوله.
كتب يُعلق على مقالنا المنشور بالوفد الخميس الماضى بتاريخ ٢٩ فبراير ٢٠٢٤م، ما نصّه:
قرأتُ مقالًا فى جريدة الوفد للأستاذ الدكتور مجدى إبراهيم أستاذ الفلسفة بكلية دار العلوم جامعة أسوان، وهو بعنوان (الأهل والآل.. فروقٌ لغويّة)، والحق أننى وجدتُ نفسى مباشرة أرغب فى التعليق على هذا المقال لأسباب كثيرة. أولها: لمِا له عندى من مكانة عظيمة قوامها علمه وخُلقه، وثانيها: طرافة الموضوع نفسه بالرغم من قِدم الفكرة؛ فموضوع الفروق اللغويّة متداولٌ فى البحث اللغوى منذ زمن بعيد؛ فقد ألف فيه أبو هلال العسكرى كتابه الشهير (الفروق اللغويّة) وغيره كثير من المؤلفات فى هذا الموضوع، وثالثها: إننى أردتُ أن أنفضَ عن ذاكرتى ما رانَ عليها من غبار الزمن وحوادث الدهر. هذا الموضوع يتصل اتصالًا مباشرًا بفكرة الترادف فى الدّرس اللغوى، والترادف عبارة عن اتحاد بعض الكلمات فى المعنى وقابليتها للتبادل فيما بينها فى أى سياق. وكلمة (آل) فى أصل الوضع ترجع إلى كلمة (أهل) قلبت هاؤها همزة لاتحادهما فى المخرج ثم أدغمت الهمزة فى الهمزة ونتج عنهما الألف الممدودة، إذن هى فى الأصل (أهل) بكل ما تعنيه من دلالة، يؤكد ذلك أنها عند التصغير ترد إلى (أهيل) لأن التصغير يرد الكلمات إلى أصولها. وهى تعنى فى معناها المعجمى أهل الرجل وأصحابه، وقد تعنى أيضًا أتباعه قالوا: آل فرعون وآل لوط، والمقصود أتباعهما، وكذلك آل محمد، صلى الله عليه وسلم، وآل إبراهيم عليه السلام. أمّا كلمة أهل، فهى تعنى أيضًا عشيرة الرجل وذوى قرابته يقول المولى عز وجل: (فابْعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها).
قال شاعرهم: إنْ كان أهلك يمنعونى رغبةً.. عنى فأهلى بى أضنُ وأرغبُ. فالكلمتان مترادفتان معنى إلا أن ترادفهما ليس ترادفًا تامًّا لأن كلا منهما لا تقع موقع الأخرى فى كل تركيب ولا يمكن لأحداهما أن تشغل مكان الأخرى فى بعض التراكيب، وهو ما ينفى الترادف المُطلق بينهما، يتضح ذلك فى تلك التراكيب التى أطلق عليها اللغويون عبارات الأديمز أو العبارات الجاهزة، ومن هذه التراكيب التى وردت فيها كلمة أهل ولا يصح أن تحل محلها كلمة (آل) مثلا: أهلُ الأصول وهم الذين يبحثون فى العقيدة وما يتّصل بها. أهلُ الأهواء وهم الذين يميلون إلى النزعة غير السليمة التى تخالف حكم الشرع. أهلُ الباطن وهم جماعة المتصوفة لأنهم يعنون بباطن الشريعة وينفذون إلى أعماق القلوب. أهلُ البدع وهم المحدثون فى الدين من غير استناد منهم إلى الكتاب أو السّنة. أهلُ الذمّة وهم المعاهدون من اليهود والنصارى. أهلُ الصُّفة بتشديد الصّاد وضمّها، وهم جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أهلُ القياس وهم الذين يعتمدون القياس حجةً فى استنباط الأحكام الشرعيّة. أهلُ الذوق وهم أهل النور العرفانى الذى يقذفه الحق سبحانه فى قلوبهم فيُفرِّقون به بين الحق والباطل.. ولحديث الدكتور عبدالنعيم من حيث هو فقيه لغوى بقيّة.